- ندوات تلفزيونية / ٠03برنامج دٌرر - قناة مكة
- /
- ٠1درر 1 - الأخلاق
مقدمة :
الأستاذ بلال :
الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني
فإذا همَا اجْتَمَعَا لنَفْسٍ حُرّةٍ بَلَغَتْ مِنَ العَلْياءِ كلّ مكانِ
***
الشجاعة خلق عربي أصيل ، جاء الإسلام فرشده ووجهه فجعله فضيلة بين تهور مذموم وجبن ممقوت ، وبذلك أصبحت الشجاعة درة من درر الشريعة الغراء ، فهلموا بنا نستجلي معانيها ، ونفهم مراميها ، نلتقطها من بحر الشريعة الزاخر من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة سلفنا الصالح .
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أخوتي المشاهدين أينما كنتم أسعد الله أوقاتكم بالخير واليمن والبركات والطاعات ، ونحن معكم في هذا اللقاء المتجدد من برنامجكم درر ، لنأخذ اليوم درجة جديدة نلتقطها من درر شريعتنا ، ونبحر معها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونحن نحاور فضيلة أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي ، مرحباً بكم سيدي .
الدكتور راتب :
بارك الله بكم ونفع بكم .
الأستاذ بلال :
أستاذنا الكريم اليوم درتنا هي الشجاعة ، و النبي صلى الله عليه وسلم كان أشجع الناس ، وكان أجود الناس ، وكنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم من أين يستمد الإنسان بادئ ذي بدء الشجاعة في مواجهة المواقف ؟
الشجاعة :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد ، وعلى آل بيته الطيّبين الطاهرين ، وعلى صحابته الغر الميامين ، أمناء دعوته ، وقادة ألوِيَتِه ، وارضَ عنّا وعنهم يا ربّ العالمين .
الحقيقة أن الإنسان أحياناً كثيرة يستمد شجاعته من مبادئه ، ومن قيمه ، أنا حينما أعتقد يقيناً أن الأجل محدود لا يزيد ثانية ولا ينقص ، هذه الفكرة المتعلقة بالأجل الثابت تعطي الإنسان شجاعة لا يموت إلا بأجله ، فلذلك الشجاعة لا تقرب الأجل ، والجبن لا يبعد الأجل ، فإذا أيقن الإنسان بإيمانه أن أجله ثابت ومحدود يكون شجاعاً .
والشيء الثاني حينما يوقن أن هذه الشجاعة لا بد منها من أجل ترسيخ مبادئ الحق ، كثير من المواقف الإنسان الشجاع ثبت الحق ، أحمد بن حنبل رحمه الله بموقفه الشجاع غير مفهوم خاطئ بحياة المسلمين بشجاعته ، أما لو أخذ موقفاً آخر لكان هناك مشكلة ، فالإنسان أحياناً يرسخ الحق ، أحياناً يدعم الدين ، يدعم القيم بمواقفه الشجاعة ، فإذا خلت حياتنا من الشجاعة خلت من القيم ، الخضوع والميل والخوف على المصالح هذا من صفات المجتمعات المتخلفة .
الأستاذ بلال :
أستاذنا الكريم هنا يحضرني أمر له علاقة شديدة جداً بموضوع الشجاعة ، النبي صلى الله عليه وسلم أشجع الناس ، ومع ذلك حينما هاجر من مكة إلى المدينة تخفى ، وجعل علياً في فراشه رضي الله عنه وأرضاه ، واتخذ كثيراً من الأسباب ، فبعض الناس يفهم أن الشجاعة ترك الأخذ بالأسباب ، ما العلاقة بينهما ؟
العلاقة بين الشجاعة و الأخذ بالأسباب :
الدكتور راتب :
أنا رأيي أن المؤمن يخضع لقوانين الكون ، من علامات عبوديته لله أن هذه القوانين التي قننها الله عز وجل يخضع لها ، كيف يخضع لها ؟ يحاول أن يتعامل معها تعاملاً إيجابياً ، من هنا كانت الشجاعة أولاً موقفاً أخلاقياً وثانياً موقفاً عملي ، لأنه هو نفى ما يناقض الشجاعة ، ويعلم أن الله مع المؤمن ناصراً ، مؤيداً ، حافظاً ، قضية الحفظ شيء دقيق جداً .
الأستاذ بلال :
ويتخذ الأسباب .
الدكتور راتب :
البطولة أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، وأن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، كأنني أمشي على طريق عن يمينه واد سحيق ، وعن يساره واد سحيق ، الوادي الأول ترك الأسباب ، والثاني الاعتماد عليها وتأليهها ، الغرب أخذ بالأسباب واعتمد عليها وألهها وقع في وادي الشرك ، لم يأخذ بها أصلاً وقع في وادي المعصية ، فبين أن تأخذ بالأسباب وأن تعتمد عليها وأن تنسى الله فهذا شرك ، أما أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء فهذا الموقف الكامل ، الإنسان مسافر ومعه مركبة ، الموقف الإيماني الكامل أن تراجع المركبة ، العجلات ، كل مرافقها أن تراجع مراجعة تامة ، أنت أخذت بالأسباب تنفيذاً لأمر الله عز وجل ، الآن تعتقد يقيناً أن الحافظ هو الله ، والمسلم هو الله ، والمعطي هو الله ، فأنت جمعت بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله ، وكلاهما شرط لازم غير كاف ، والموقف الكامل للمؤمن هذا بدراسته ، بعمله التجاري ، بوظيفته ، يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم يتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، إن لم يأخذ بالأسباب عصى لأنه لم يعبأ بقوانين الكون ، وإن أخذ بها واعتمد عليها أشرك ، البطولة أن نأخذ بها وكأنها كل شيء ، وأن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء .
الأستاذ بلال :
أستاذنا الكريم ليس من الشجاعة أن نترك الأخذ بالأسباب ، هذا تهور ، النبي صلى الله عليه وسلم هاجر من مكة إلى المدينة وأخذ بالأسباب .
الثقة بالله مع الأخذ بالأسباب :
الدكتور راتب :
أخذ طريقاً مساحلاً عكس الجهة تعمية على المطاردين ، قبع في غار ثور ، اختار دليلاً رجح فيه الخبرة على الولاء ، أخذ بكل الأسباب ، وبعدها توكل على الله ، ولكن حينما تبعه سراقة لأنه كان يطمع بمئة ناقة لمن يأتي بالنبي حياً أو ميتاً
والله هناك موقف لا أنساه ، قال له النبي : يا سراقة كيف بك إذا لبست سواري كسرى ؟ هذه نقرؤها سريعاً ولا نقف عندها ، ما معنى ذلك ؟ أي أنا سأصل إلى المدينة سالماً ، وسأنشئ دولة ، وسأنشئ جيشاً ، وسأحارب أكبر دولتين في العالم ، وسأنتصر عليهما ، وسوف تأتي إلى المدينة غنائم كسرى ، و لك يا سراقة سوار كسرى ، هذه ثقة النبي بنصر الله ، إنسان ملاحق ، مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً ، لكنه موقن بوعد الله ، لو أن المسلمين الآن اشتقوا من هذه الثقة بالمستقبل لأصبحت حياتنا شيئاً آخر ، يقول لك : انتهينا ، لا لم ننته ، أنت معك منهج الله عز وجل ، هناك وضع صعب نعانيه ، لكن ما انتهينا ، الله مع الحق ولو كان الحق ضعيفاً الآن لكن الله مع الحق ، هناك أزمات مرت بالأمة أصعب من هذه الأزمات ، الله عز وجل نجاها ، دائماً الثقة بالله مهمة جداً ، الثقة بالله مع الأخذ بالأسباب ، أما عدم الأخذ بالأسباب فهذا شيء لا يليق بالمؤمن ، لا يليق به أيضاً أن يأخذ بالأسباب ويعتمد عليها ويؤلهها وأن ينسى الله ، ما الذي يصير عندما يأخذ الإنسان بالأسباب ؟ مزلة قدم ، كل شيء مرتب ، كل شيء أعددت له العدة ، هذا خطأ أنا آخذ بالله طاعة لله ، وأعتمد على الله عز وجل ، لأنه ما سهل إلا ما جعله الله سهلاً .
الأستاذ بلال :
أستاذنا الكريم قد يعرض المشاهد سؤالاً ، عمر رضي الله عنه أيضاً هاجر من مكة إلى المدينة وبشجاعة وقال : من أراد أن تثكله أمه يتبعني خلف هذا الوادي ، وخرج على أعينهم ، كيف نوفق بين موقفه وموقف النبي صلى الله عليه وسلم ؟
التوفيق بين موقف النبي و موقف عمر في الشجاعة :
الدكتور راتب :
أنا الذي أراه أن النبي صلى الله عليه وسلم مشرع ، لو هاجر كما هاجر عمر ألغيت الأسباب ، وصار هناك تهور ، وصار التهور هو المنهج ، النبي مشرع ، سيدنا عمر عمل موقفاً خاصاً يدفع ثمنه وحده ، لو لا سمح الله قتلوه ، هو أخذ باجتهاده الشخصي ، لذلك سيدنا عمر ليس مشرعاً ، النبي صلى الله عليه وسلم مشرع ، دخل على غار ثور ، وأخذ بالأسباب ، ومشي مساحلاً ، وعمل كل الوسائل التي يمكن أن تنجيه ، لكن هناك ملمحاً دقيقاً وصلوا إلى الغار لو كان اعتماد النبي على الأسباب لانهار ، لكن اعتماده على الله ، أخذ بالأسباب طاعة لله ولم يأخذ بها يقيناً ، يقينه بنصر الله هذه نقطة مهمة جداً ، لماذا سمح الله لهم أن يصلوا إلى الغار ؟ علمنا درساً ، كان اعتماد النبي صلى الله عليه وسلم على الأسباب اعتماد طاعة لله فقط ، أما هو فموقن بنصر الله له .
الأستاذ بلال :
بارك الله بكم ، في المحور الأخير في هذا اللقاء الطيب أريد أن نحاول أن نجعل هذه الشجاعة واقعاً ، وأبدأ من أمر ربما لا ينتبه إليه كثيرون وهو الشجاعة مع النفس في مجاهدة النفس ، هل من الشجاعة أن يجاهد الإنسان نفسه قبل كل شيء ؟
اعتماد القدوة قبل الدعوة :
الدكتور راتب :أنا الذي أراه لن تستطيع أن تقنع إنساناً إن لم تكن أنت القدوة
فأنا أرى أن القدوة قبل الدعوة ، بيت الداعية جزء من دعوته ، تربية أولاده جزء من دعوته ، اختيار حرفته جزء من دعوته ، كسب ماله جزء من دعوته ، الناس يتعلمون بعيونهم لا بأذانهم ، حينما يرون الداعية له عمل مستقيم ، ودخله حلال ، وتربيته لأولاده جيدة ، رأوا الجانب الآخر ، الجانب الذي قد يخفى عن معظم الناس ، أعبر عن هذا أن بيت الداعية جزء من دعوته ، وهذا ينطبق على الدعاة الصادقين .
الأستاذ بلال :
لو فهم إنسان الشجاعة فقط في مواجهة الأعداء ، وأمضى عمره لم يواجه الأعداء، نقول له : قبل ذلك كن شجاعاً مع نفسك ، أو جاهد نفسك وهواك قبل أن تبدأ بمفهوم الشجاعة العام .
مجاهدة النفس و الهوى :
الدكتور راتب :
دخل أبو حنيفة رحمه الله تعالى على المنصور ، قال له : يا أبا حنيفة لو تغشيتنا؟ فقال : ولمَ أتغشاكم وليس عندكم شيء أخافكم عليه ؟ وهل يتغشاكم إلا من خافكم على شيء ؟ إنك إن أكرمتني فتنتني ، وإن أبعدتني أزريت بي . هذه شجاعة ، تكلم كلاماً فصلاً ، لذلك قالوا : نعم الحاكم في باب العالم ، لكن بئس العالم في باب الحاكم ، أخذ موقفاً .
الأستاذ بلال :
أستاذنا الكريم الله عز وجل يقول في كتابه الكريم :
﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
أي المجتمع الإسلامي اليوم مجتمع ضعيف مع الأسف الشديد ، المحن تتوالى على هذه الأمة فحبذا كلمة نشد بها أزرنا ونتشجع لنمضي إلى الأمام .
بطولة الإنسان أن يقبل من الله ما يسوقه له من معالجات تنتهي بالتفوق :
الدكتور راتب :
والله الذي لا إله إلا هو أنا أرى أنه من المستحيل وألف ألف مستحيل أن يتخلى الله عن عباده المؤمنين ، وهذا جزء من إيماننا ، وربنا عز وجل لعله يعالج هؤلاء المؤمنين أحياناً ، لكن لا ينساهم هم في رحمة الله ، وفي عنايته ، أنت حينما تؤمن أن الله عز وجل يقدم لك بعض المعالجات طبعاً لو أن مريضاً زار طبيباً ومعه ورم خبيث منتشر قال له : ماذا آكل؟ قال له : كُل ما شئت ، زاره مريض آخر معه التهاب بالمعدة حاد أخضعه لحمية قاسية ، أيهما أولى أن يخضع الإنسان لحمية قاسية والأمل بالشفاء كبير جداً أم يقال له كُل ما شئت وتأتي الآية الكريمة :
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾
فالبطولة أن تقبل من الله ما يسوقه لك من معالجات تنتهي بالتفوق لا أن تحسد إنساناً ميؤوساً من صلاحه وجاءته الدنيا كما يتمنى .
الأستاذ بلال :
إذاً هل يكفي أمام هذا الواقع أن نصبر ؟
التوحيد لا يلغي المسؤولية و المحاسبة :
الدكتور راتب :
نأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، الحقيقة لا بد من حركة التوحيد لا يلغي المسؤولية ، التوحيد لا يلغي المحاسبة ، التوحيد لا يلغي الأخذ بالأسباب ، أنا مؤمن ، المنهج مطبق بشكل حكيم ، نحن نؤمن بالتوحيد ، الله يمتحننا ، الحقيقة العالم كله ضد الإسلام ، هذا امتحان لكن المؤمن لا ييئس من رحمة الله ، اليأس يتناقض مع الإيمان ، دائماً وأبداً الأمل بالها كبير ، إذا رجع العبد إلى الله رجعة راقية أكرمه الله .
خاتمة و توديع :
الأستاذ بلال :
نسأل الله ذلك ، ونسأل الله أن يرينا فرجه ونصره ، ونكون دائماً في شجاعة في قول الحق ، وفي العمل به إن شاء الله .
ونشكر لكم هذه اللفتات في هذا اللقاء الطيب . وأنتم أخوتي المشاهدين لم يبق لي في ختام هذه الحلقة الطيبة المباركة من برنامجكم درر إلا أن أشكر لكم حسن متابعتكم راجياً الله لكم دوام الصحة والعافية ، وحتى نلتقيكم في لقاء آخر أستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتم أعمالكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .